الفصل العشرون
لا يختلف اليوم عن الأمس
شعرت بشيء من الرّهبة وأنا أخطو نحو المنصّة وأقف خلفها استعدادًا لإلقاء كلمتي التي حضّرت لها منذ أسابيع. بدا لي المشهد سرياليًا حول مبنى المتحف المبهر للبصر، الذي أضيء بقوّة أكبر من العادة احتفالًا بمرور مائة عام على تأسيسه وأمامي جلس الحضور في مقاعد متراصفة ضمّت أصحاب السمّو من الشّيوخ والأمراء والملوك، وأصحاب المعالي والسّعادة من الوزراء والشّخصيّات العامّة البارزة. فوق رؤوسهم انطلقت أسراب من الدرونات المضيئة لتضيف سحرًا على سحر المكان.
شددت هامتي واستجمعت شجاعتي. نظرت إلى ماجدة بين الحضور وارتحت لحضورها والقيت كلمتي:
صاحب السّمو.. حاكم دبي..
أصحاب السمو والمعالي..
الحضور الكريم..
السّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته..
نرحّب بكم اليوم في هذا الحفل الخاص بمناسبة مرور المئويّة الأولى على تأسيس متحف المستقبل..
هذا الصّرح العلمي المميّز الذي أنشئ قبل مئة عام، استشرافًا للمستقبل ومنارة للمعرفة..
أجمل مبنى في العالم..
ازداد بريقًا مع مرور الوقت..
سنة بعد سنة..
متحالفًا مع الأيام..
متحدًّا مع المستقبل..
مرسّخًا من مكانته.. مزار عالميّ ومركز فكريّ.. لكل باحث ومفكّر ومُتطلّع للمستقبل..
طالما كان بيتًا للمستقبل.. وواحة لمن ينظرون إلى الأمام..
هكذا رآه سمو الشّيخ محمد بن راشد.. وهكذا كان..
تعلّمنا من سموّه أهميّة دراسة المستقبل واستشرافه..
لأنّ الأمم التي لا تتخيّل مستقبلها لا تملك القدرة على صنعه..
أراد لنا سموّه استئناف الحضارة..
وهكذا كان حين أسّس لدبي كي تسبق مدن العالم..
ما أعاد إحياء حُب شعوب المنطقة للعلم والبحث والمنطق والعقل..
وأطلق سباقًا بين المُدن العربيّة لتنهض وتنافس دول العالم الأخرى في العمل والإنجاز والابتكار..
لا شيء مستحيل..
الشّعار الذي أطلقه سمّوه.. أصبح واقعًا..
شاهدناه يتحقق أمام أعيننا في القرن الماضي..
بعدما احتضنت المنطقة شركات التكنولوجيا الحيويّة والذّكاء الاصطناعي وعلوم المستقبل..
وتصدّرت دول العالم في إيجاد حلول للتحدّيات العالميّة…
تمّ إنقاذ الأرض من خطر الاحتباس الحراري..
وأوجدنا حلولًا عمليّة للانفجار السّكاني..
وباتت شيخوخة دول العالم المتقدّم في خبر كان..
قضينا على الأمراض التي كانت تخيف إنسان القرن الماضي..
وانتصرنا على الموت..
أضحينا كائنات كونيّة متعددة الكواكب حين استوطنا المرّيخ..
وأسسنا أوّل مدينة عربيّة عليه..
تحوي سكّانًا عربًا وترفع راية الإسلام..
سمعنا في مآذنها صوت التكبير يرن..
فوق رمال الكوكب الأحمر..
الله أكبر.. الله أكبر..
صاحب السّمو..
أصحاب السمّو والمعالي..
الحضور الكريم..
الله أكبر..
لا شيء مستحيل..
علّمتنا السنوات أنّه مع الإنجازات تأتي التّحدّيات..
وأنّ الاختراعات البشرية حادّة كالسيوف..
وتحمل وجهين..
وجه للخير.. وآخر للشر..
وجه للبناء.. وآخر للهدم..
وعينا إلى أنّ الإنسان هو الإنسان مهما تحوّلت المعطيات الحياتيّة وتغيّرت الظّروف..
فما يميّز الإنسان، يا سادة يا كرام، عن مخلوقات الكون الأخرى هي قدرته على الإيمان..
حريّته بالإيمان المطلق..
بأيّ شيء..
بما في ذلك الإيمان بأمور غيبيّة.. وأمور وهميّة.. وأمور قاتلة..
رأينا في السّنوات السابقة كيف امتلأت العوالم الافتراضيّة بعصابات وحركات اجتماعيّة وطوائف دينيّة مستحدثة..
تفسّر الأديان السّماويّة على هواها..
وتؤسس أديانًا جديدة لم نسمع عنها سابقًا..
منها الغريب ومنها المتطرّف.. منها ما يحاول إعادة عجلة الزّمن.. ومنها ما يحاول حبسنا في زمن غابر وأيّام ولّى عليها الزّمن..
وكما اعتلت الحركات المتطرّفة في الماضي ظهر الإسلام.. نراها اليوم تحاول مجدّدًا..
مسلّحة بالتكنولوجيا الحديثة..
وبقدرات أكبر من أيّ زمن مضى..
لا يختلف اليوم عن الأمس..
فحين افتتح هذا المتحف أبوابه قبل مائة عام كانت الدّول العربيّة لا تزال تعاني من مظاهر التّطرّف الديني..
منها ما تدمّر وقتها ومنها ما كان يقاوم الانهيار..
واليوم نجد مظاهر التطرّف الديني عادت لتعمّ على الشّعوب العربيّة..
وبتنا نسمع عن حركات متطرّفة تجيد اللعب السيّاسي..
وتضع أمام أعينها هدف الوصول إلى سدّة الحكم..
لتتحكم في مصائرنا وتفرض علينا صورتها الخاصّة لما يجب أن تكون عليه الحياة في الدّنيا..
وفي الآخرة..
من هذه المنصّة.. من بيت المستقبل هذا..
اسمحوا لي أن أرفع صوتي..
وأنادي القيادات العربيّة للنهوض والتّصدّي للخطر المحدّق بنا..
علينا التمسّك بحقوق الإنسان وإعلاء راية الحريّات الفرديّة..
واحترام الخصوصيّة..
وحريّة الاختيار..
والانتباه إلى خطر الرّضوخ لقرارات الخوارزميّات وسيطرتها على مصير ومستقبل المجتمعات البشريّة..
اسمحوا لي أن أُطلق صرختي هنا..
من هذا المنبر العظيم..
وكلّي أمل أن تأتي الحلول..
كما تعوّدناها..
من هذه المدينة المستقبليّة..
لتبقى دبي كما عوّدتنا..
بلدًا للانفتاح والتعايش والتسامح..
بلدًا للقانون والحرّيات..
للأمن والأمان..
المدينة التي لا مكان للتّطرف فيها ولا للتعصب..
ولا الأيدولوجيّات الخطرة..
شكرًا لكم..
والسّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته..