فادي زغموت يستشرف روائيًا تبعات التكنولوجيا وجنون الذكاء الاصطناعي

مقال عن رواية أمل على الأرض بقلم نشوى أحمد، نشر في عدد يونيو من مجلة أخبار الأدب.

بين العلم والأدب علاقة توطدت عبر أدب الخيال العلمي، وعلى الرغم من أن رواية “فرنكشتاين”، للكاتبة الإنجليزية ماري تشيلي، تعد أول تجسيد له، فإنه لم يبرز كنوع أدبي له سماته وخصائصه إلا في نهاية القرن التاسع عشر، مع ظهور أعمال لكتاب مهمين، مثل الكاتب الفرنسي جول فيرن، والإنجليزي هربرت جورج ويلز. وفي القرن العشرين ترسخ هذا الأدب، لا سيما مع ظهور أسماء كبيرة تحققت لها شهرة واسعة، مثل إسحاق أسيموف، روبرت هانلين، أرثر سي كلارك، جورج لوكاس وغيرهم، لكن الأدب العربي ظل لوقت طويل بعيدًا عن الاهتمام بالخيال العلمي، ربما نتيجة ضعف الإقبال على قراءته، في بيئة اعتادت أن تستهلك العلم ولا تنتجه، غير أن بعض الشواهد باتت تشير مؤخرًا إلى زيادة الاهتمام به، خصوصًا مع الطفرة العلمية التي أحدثها الذكاء الاصطناعي، في عالم حولته ثورة الاتصالات إلى قرية صغيرة. وبات التقدم التكنولوجي بما يفتحه من آفاق واسعة؛ باعثًا للآمال وللمخاوف معا، لا سيما فيما يتعلق بأثره على مستقبل البشرية. هذه الآمال والمخاوف، جسدها الكاتب الأردني “فادي زغموت” في روايته “أمل على الأرض”، الصادرة حديثًا عن دار الأهلية للنشر والتوزيع – الأردن، إذ استثمر الذكاء الاصطناعي لخلق واقع روائي تدور أحداثة بعد مئة عام من الآن.

منجزات واقعية

اختار الكاتب في نصه الذي يأتي كجزء ثانٍ لروايته الأولى “جنة على الأرض”؛  أسلوب السرد الذاتي على لسان الشخصية المحورية “أمل”، ليقرب المسافة بين بطلته والقارئ، ويضفي على سرده مزيدًا من الحميمية والصدقية. وعزز هذه الحميمية عبر استخدامه اللهجة العامية الأردنية التي أنعشت النسيج. وانطلق في عالمه المتخيل من إنجازات وابتكارات علمية وتقنيات توصل لها العلماء بالفعل. وشرعوا في استخدامها، مثل تقنية الطباعة الثلاثية الأبعاد، الواقع الافتراضي،  الروبوت، سفن الفضاء، كبسولات الهايبر لوب، تقنية النانو، والشرائح الإلكترونية، التي تتم زراعتها في جسم الإنسان؛ ثم صاغ واقعًا تدور أحداثه في زمن مستقبلي بعد نحو قرن من الآن، حيث تكتسب الروبوتات صفات إنسانية. وتمارس الوظائف لا سيما الأمنية، وتصبح للسيارات قدرة على الطيران،  ويستطيع الإنسان إنتاج طعامه سواء فواكه أو لحوم عبر طباعته، كما يستطيع بمساعدة حبة صفراء، وروبوتات صغيرة الحجم، وشرائح الكترونية مزروعة في جسمه؛ الحفاظ على شبابه الدائم، وتجنب أعراض ومظاهر الشيخوخة، ويمكنه أيضًا أن يقي نفسه من الإصابة بالأمراض، بمساعدة الميكروبات الذكية، فتتطول الأعمار، ويقل الموت، نتيجة انتهاء الشيخوخة كأحد أسبابه الرئيسة.

وبدا خيال الكاتب أكثر جموحًا، حين أتاح لشخوصه إمكانية اختيار العودة للطفولة، والعيش قرونًا متصلة، بل واستخدام رفاة الأموات لإعادة بناء أجسامهم، واستعادتهم مرة أخرى إلى الحياة. وقد أضاف هذا الجموح مزيدًا من التشويق للنص، عززه الكاتب بما استخدمه من حيل استباقية، فقد كشف عن عمر زوج جنة، الذي لم يجاوز الطفولة، وأرجأ تفسير طفولته إلى مرحلة لاحقة من السرد، وكذا استبق بتصوير ما آلت إليه جنة من سكينة وسعادة، موحيًا بعلاقة سرية تربطها بكميل، في حين أرجأ الكشف عن أسباب هذه السكينة لمرحلة متأخرة، في مفاجأة جديدة للقارئ.  

ديمومة الصراع

مرر “زغموت” -على مدى رحلته السردية- رؤى حول ديمومة الصراع على الأرض، مهما تغيرت ملامح الزمن ومهما بلغ العلم، ومهما تحقق للإنسان من رفاهية. واتسق مع هذه الرؤى ما بدا من هيمنة الصراع على كل مفاصل السرد. كان بعضه صراعًا داخليًا، احتدم داخل الشخصية المحورية، وتسبب في اضطراب هويتها الجندرية، التي أودعتها منطقة رمادية لا تميل للذكورة ولا للأنوثة. واحتدم أيضًا في دواخل جنة، التي انقسمت بين قناعاتها بالحقوق الفردية والحرية والخصوصية من جهة، وبين جنوحها للانتقاص من تلك الحقوق، بوازع الأمومة، ورغبة في حماية أبنائها. كما برز هذا المستوى من الصراع الداخلي في العوالم الداخلية لأغلب الشخوص، التي انقسمت بين قبولها لواقع غلبت فيه المادة على الروح، والآلية على الإنسانية، وبين حنين لحقبة سبقت هيمنة الذكاء الاصطناعي، وكان العالم خلالها أكثر إنسانية. ومن هذا الصراع الداخلي انبثق صراع آخر تجاوز العوالم الداخلية للشخوص، وطفا على السطح. فاشتعل بين الشخوص الذين يبحثون عن حرية أكبر، وعن حياة أكثر إنسانية، وبين نظام آلي صارم تفرضه الدول، وتجرم أية محاولة للخروج عنه. كما برز صراع فكري بين المعتدلين من جهة، وبين المتشددين الذين يظنون أنهم ممثلو الله على الأرض. وعبر هذا الصراع مرر الكاتب رؤى أخرى حول استمرار نزعات التطرف، وخطورتها على المجتمعات. ورصد خطورة مثل هذه التيارات المتشددة في تعطيل الحياة، وإفساد العقول، وغرس بذور الفرقة حتى بين أفراد الأسرة الواحدة. “أسرعت للاقتراب من الأفاتار الممثل للتيارات الإسلامية قبل اختفائه، وباشرت بسؤاله عن بدعة الثواب والعقاب على الأرض للجماعة التي انضم إليها عمر” ص164

وبينما اعتمد الكاتب تقنيات المقابلة لرصد تناقضات الشخوص، وانقساماتها، على المستويين الداخلي، والخارجي، أبرز تماثل معاناة الإنسان في كل وقت، لاسيما في المجتمعات العربية، فبعد مئة عام تبدلت خلالها ملامح الحياة، لا يزال الناس يطالبون في مظاهراتهم، بالحرية والعدالة، والمساواة!

شخوص متحولة

أسهم الصراع في زيادة دينامية السرد، وفي الدفع بعجلة الأحداث. وكانت كل مستوياته بمثابة معطيات، بررت ما طرأ على الشخوص من تحول على المستوى النفسي والأيدولوجي. فكان الصراع بين جنة وجيهان، سببًا في قرار أمل الاستقلال عن كلتيهما، وتشكيل ذاتها على نحو مختلف، بعيدًا عن محاولات التأثير عليها، ما أسفر في النهاية عن اضطراب هويتها الجندرية. ولم تكن أمل الشخصية الوحيدة المتحولة بالنص، بل تشاركت أغلب الشخوص هذه السمة، فتحولت جنة -أيدولوجيًا- من التمسك بمزايا العصر الجديد، ورفض الشيخوخة، ومجابهة الموت، إلى الانحياز لحرية الاختيار، وتفهم حق الراغبين في الشيخوخة. بينما تحولت جيهان من تجاهل جمال في هيئته الآلية، إلى إغراءه للزواج منها، والعيش معها. وتحولت كذلك -مع سيطرة الجماعات الدينية على السلطة- من امرأة تحب جسدها، وتبرز مفاتنه، إلى ارتداء الحجاب؛ في محاولة منها للتلون، بما يناسب العهد الجديد. أما عمر فناله أيضًا نصيبٌ من التحول، فأحجم عن حياة كان مقبلًا عليها، واختار بدلا عنها؛ سُبات عميق لمئة عام، في تجربة اصطناعية، تحاكي -عن طريق الخوارزميات- الحساب بعد الموت. وتحولت شخصية جمال في هيئته الآلية -بمساعدة الخوارزميات- إلى الرغبة في شباب دائم، بعد أن امتنع في هيئته الأنسانية، عن ابتلاع الحبة الصفراء، مفضلًا الشيخوخة والموت. وهكذا كان التحول ثيمة رئيسة للشخوص داخل النص، ما نأى بها عن رتابة التنميط. وعزز من جاذبية وحيوية النص. ورغم اعتماد الكاتب أسلوب السرد الذاتي على لسان أمل طيلة رحلة السرد، فقد منح صوت الراوي لكل من جنة وجيهان، وذلك عبر استدعائه قالب المقال،  ليضفي على السرد صبغة موضوعية، ويحيّد البطلة في صراعهما، حول مصير الروبوت جمال، رغم أنها كانت تنحاز للآلة وتؤيد منحها الحقوق ذاتها، التي تتسنى للإنسان الطبيعي.

هيمنة الآلة

استشرف الكاتب ملامح مجتمع تهيمن عليه الآلة. وجسد عبر فضاءاته السردية، أمال المتطلعين إلى عالم تختفي فيه أزمات المناخ، ونقص الغذاء، التضخم السكاني، والرأسمالية المنفلتة، وكذا الأمراض المستعصية حتى النفسية منها “أصرت على أن لا يؤثر علاجها على ذكرياتها المتعلقة به، لأنها لا تريد أن تنساه، ولن تسمح لأحد بأن ينسيها إياه. لذلك أُعد العلاج بدقة ليفصل بين الروابط العصبية، التي تجمع ذكرياته بمشاعر الألم والحنين.” ص 225

وبالمقابل جسد مخاوف المتوجسين من هيمنة الآلة والذكاء الاصطناعي، وما قد يصاحبه من انتهاك الخصوصية، وتقييد الحريات، ومن احتمالية تسريعه لهلاك البشرية، وفناء العالم. وكان الحلم أحد التقنيات التي انتهجها زغموت، للتعبير عن هذه المخاوف فما رأته أمل في حلمها من تورطها مع أخيها في عبور ممر ضيق، انتهى بسقوطهما معا من أعلى جبل شاهق، لم يكن سوى حيلة ناجعة استخدمها الكاتب لاستجلاء مخاوف البطلة، من قرار عمر بالخضوع لخوارزميات تدخله في سبات طويل، وتعرضه لتجربة العقاب والثواب بأسلوب يحاكي الحساب بعد الموت. وكان في الوقت نفسه وسيلة ناجعة مرر عبرها -ضمنًا- رؤى حول إمكانية أن يتحول الذكاء الاصطناعي إلى جنون، ينذر بفناء البشر، وانتهاء الحياة على الأرض .

Recent blog posts

Do you have something to say?